فصل: 1813- باب وَمِنْ سُورةِ الأعراف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري ***


1813- باب وَمِنْ سُورةِ الأعراف

مكية إلا ‏{‏واسألهم عن القرية‏}‏ الثمان أو الخمس آيات، وهي مائتان وخمس أو ست آيات

بسم الله الرحمن الرحيم 3173- حدثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحمَنِ، أخبرنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ، عن ثَابِتٍ عن أَنَسٍ، ‏"‏أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هَذِهِ الاَيَةَ‏:‏ ‏"‏‏{‏فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا‏}‏ قال حَمّادٌ‏:‏ هَكَذَا، وَأَمْسَكَ سُليْمانُ بِطَرَفِ إِبْهَامِهِ عَلَى أَنْمُلَةِ إصْبَعِهِ الْيُمْنَى، قال‏:‏ فَسَاخَ الْجَبَلُ ‏{‏وَخَرّ مُوسَى صَعِقاً‏}‏‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ من حديثِ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ‏.‏

3174- حدثنا عَبْدُ الْوَهّابِ الْوَرّاقُ الْبَغْدَادِيّ، أخبرنا مُعَاذُ بنُ مُعَاذٍ، عن حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ، عن ثَابِتٍ عن أنَسٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحْوَهُ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ‏.‏

3175- حدثنا الأنْصَارِيّ، أخبرنا مَعْنٌ، أخبرنا مَالِكُ بنُ أنَسٍ عن زَيْدِ بنِ أبي أُنَيْسَةَ عن عَبْدِ الْحَمِيدِ بنِ عبدِ الرّحْمَنِ بنِ زَيْدِ بنِ الْخَطّابِ عن مُسْلِمِ بنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيّ، أَنّ عُمَرَ بنَ الْخَطّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الاَيَةِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مَنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ‏}‏ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْهَا، فَقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنّ الله خَلَقَ آدَمَ ثُمّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرّيَةً، فقال‏:‏ خَلَقْتُ هَؤَلاَءِ لِلْجَنّةِ وبِعَمَلِ أهْلِ الْجَنّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرّيَةً، فقالَ‏:‏ خَلَقْتُ هَؤلاءِ لِلنّارِ، وبِعَمَلِ أهْلِ النّارِ يَعْمَلُونَ‏"‏‏.‏ فقالَ رجُلُ‏:‏ فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ الله‏؟‏ قال فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنّ الله إذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنّةِ حَتّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أعْمَالِ أهْلِ الْجَنّةِ فَيُدْخِلَهُ الله الْجَنّةِ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ النّارِ حَتّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أهْلِ النّارِ فَيُدْخِلَهُ الله النّارَ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ‏.‏ وَمُسْلِمُ بنُ يَسَارٍ لم يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ‏.‏ وقد ذَكَرَ بَعْضُهُمْ في هذا الإسنادِ بَيْنَ مُسْلِمِ بنِ يَسَارٍ وبَيْنَ عُمَرَ رَجُلاً مجهولاً‏.‏

3176- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا أبُو نُعَيْمٍ، أخبرنا هِشامُ بنُ سَعْدٍ، عن زَيْدِ ابْنِ أَسْلَمَ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ قال‏:‏ قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لَمّا خَلَقَ الله آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرّيّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَي كُلّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصاً مِنْ نُورٍ، ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ‏:‏ أَيْ رَبّ، مَنْ هَؤُلاءِ‏؟‏ قال‏:‏ هَؤُلاَءِ ذُرّيّتُكَ، فَرَأَى رَجُلاً مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ ما بَيْنَ عَينَيْهِ، فقال‏:‏ أيْ رَبّ، مَنْ هَذَا‏؟‏ فقال‏:‏ هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الاْمَمِ مِن ذُرّيَتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدِ، قال‏:‏ رَبّ وَكَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ‏؟‏ قال‏:‏ سِتّينَ سَنَةً، قال‏:‏ أيْ رَبّ، زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمّا انْقَضَى عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ المَوْتِ فقال‏:‏ أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أرْبَعُونَ سَنَةً‏؟‏ قال‏:‏ أَوَلَمْ تُعْطِهَا لاِبْنِكَ دَاوُدَ‏؟‏ قال‏:‏ أو لم تعطها ابنك داود قال‏:‏ فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذرّيّتُهُ وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرّيّتهُ، وَخَطِيءَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذرّيّتُهُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وقد رُوِيَ من غيرِ وَجْهٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

3177- حدثنا محمّدُ بنُ المثَنّى، أخبرنا عبدُ الصّمَدِ بنُ عبدِ الْوَارِثِ أخبرنا عُمرُ بنُ إبْرَاهِيمَ عن قَتَادَةَ، عن الْحَسَنِ عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لَمّا حَمَلَتْ حَوّاء طَافَ بِها إِبْلِيسُ وكَانَ لا يَعِيشُ لَها وَلَدٌ، فقال‏:‏ سَمّيهِ عَبْدُ الْحَارِثِ، فَسَمّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَعَاشَ ذلك وكَانَ ومِنْ وَحْيِ الشّيْطَانِ وَأَمْرِهِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفهُ مرفوعاً إلا من حديثِ عُمَرَ بنِ إبراهِيمَ عن قَتَادَةَ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عن عَبْدِ الصّمَدِ ولم يَرْفَعْهُ عمر بن إبراهيم شيخ بصري‏.‏

- قوله‏:‏ ‏{‏فلما تجلى ربه للجبل‏}‏ أي ظهر نور ربه للجبل ‏{‏جعله دكاً‏}‏ أي مدكوكاً مستوياً بالأرض ‏(‏قال حماد‏)‏ هو ابن سلمة ‏(‏هكذا‏)‏ أي أشار حماد بن سلمة لبيان قلة التجلي، هكذا يعني وضع طرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى ‏(‏وأمسك سليمان إلخ‏)‏ أي لبيان قوله هكذا‏.‏ وروى الحافظ ابن جرير من طريق حماد عن ليث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاَية ‏(‏فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا‏)‏ قال هكذا بإصبعه، وضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل‏.‏

قال الحافظ ابن كثير‏:‏ هكذا وقع في هذه الرواية حماد بن سلمة عن ليث عن أنس، والمشهور حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس انتهى ‏(‏قال‏)‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏فساخ الجبل‏)‏ أي غاص في الأرض وغاب فيها ‏(‏وخرموسى صعقاً‏)‏ أي مغشياً عليه لهول ما رأى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح غريب‏)‏ وأخرجه أحمد والحاكم في المستدرك وابن جرير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا معاذ بن معاذ‏)‏ بن نصر بن حسان العنبري أبو المثنى البصري القاضي ثقة متقن من كبار التاسعة‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏عن زيد بن أبي أنيسة‏)‏ بضم الهمزة وفتح النون وسكون الياء هو أبو أسامة الجزري ‏(‏عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب‏)‏ العدوي أبي عمر المدني، ثقة من الرابعة، توفي بحران في خلافة هشام ‏(‏عن مسلم بن يسار الجهني‏)‏ مقبول من الثالثة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الاَية‏)‏ أي عن كيفية أخذ الله ذرية بني آدم من ظهورهم المذكور في الاَية ‏{‏وإذ‏}‏ أي اذكر يا محمد حين ‏{‏أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم‏}‏ بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار، وقيل بدل بعض ‏{‏ذريتهم‏}‏ بأن أخرج بعضهم من صلب بعض من صلب آدم، نسلاً بعد نسل كنحو ما يتوالدون كالذر بنعمان يوم عرفة، ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً وأشهدهم على أنفسهم‏)‏ قال ‏(‏ألست بربكم قالوا بلى‏)‏ أنت ربنا ‏(‏شهدنا‏)‏ بذلك ‏(‏أن تقولوا‏)‏ أي لئلا تقولوا ‏(‏يوم القيامة إنا كنا عن هذا‏)‏ أي التوحيد ‏(‏غافلين‏)‏ لا نعرفه ‏(‏سئل‏)‏ بصيغة المجهول والجملة حالية ‏(‏عنها‏)‏ أي عن هذه الاَية ‏(‏ثم مسح ظهره‏)‏ أي ظهر آدم ‏(‏بيمينه‏)‏‏.‏

قال الطيبي‏:‏ ينسب الخير إلى اليمين، ففيه تنبيه على تخصيص آدم بالكرامة، وقيل بيد بعض ملائكته وهو الملك الموكل على تصوير الأجنة أسند إليه تعالى للتشريف، أو لأنه الاَمر والمتصرف، كما أسند إليه التوفي في قوله تعالى ‏(‏الله يتوفى الأنفس‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏الذين تتوفاهم الملائكة‏)‏ ويحتمل أن يكون الماسح هو الله تعالى والمسح من باب التصوير والتمثيل كذا في المرقاة‏.‏

قلت‏:‏ هذه تأويلات لا حاجة إليها قد مر مراراً أن مذهب السلف الصالحين رضي الله عنهم، في أمثال هذه الأحاديث إمرارها على ظواهرها من غير تأويل وتكييف ‏(‏فاستخرج منه ذرية‏)‏ قيل قبل دخول آدم الجنة بين مكة والطائف، وقيل ببطن نعمان وأنه بقرب عرفة، وقيل في الجنة، وقيل بعد النزول منها بأرض الهند‏.‏ وروى عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلاً قال‏؟‏ ألست بربكم قالوا بلى شهدنا‏"‏‏.‏ ونقل السيد السند عن الأزهار أنه قيل شق ظهره واستخرجهم منه، وقيل‏:‏ إنه استخرجهم من ثقوب رأسه، والأقرب أنه استخرجهم من مسام شعرات ظهره، ذكره القارئ في المرقاة‏.‏

قلت‏:‏ حديث ابن عباس الذي ذكره بقوله وروى عن ابن عباس الخ أخرجه أحمد في مسنده والنسائي في كتاب التفسير من سننه، وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه‏.‏ وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد روى هذا الحديث موقوفاً علي ابن عباس‏.‏

قال الحافظ ابن كثير‏:‏ وهذا أي كونه موقوفاً علي ابن عباس أكثر وأثبت انتهى‏.‏ قال الإمام الرازي‏:‏ أطبقت المعتزلة على أنه لا يجوز تفسيره هذه الاَية بهذا الحديث لأن قوله من ظهورهم بدل من بني آدم‏.‏ فالمعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم فلم يذكر أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً، وما كان المراد الأخذ من ظهر آدم لقيل من ظهره وأجاب بأن ظاهر الاَية يدل على أنه تعالى أخرج الذرية من ظهور بني آدم، وأما أنه أخرج تلك الذرية من ظهر آدم فلا تدل الاَية على إثباته ونفيه والخبر، قد دل على ثبوته فوجب القول بهما معاً بأن بعض الذر من ظهر بعض الذر والكل من ظهر آدم صوناً للاَية، والحديث عن الاختلاف انتهى‏.‏ وقال التوربشتي‏:‏ هذا الحديث يعني حديث ابن عباس المذكور لا يحتمل من التأويل ما يحتمله حديث عمر رضي الله تعالى عنه ولا أرى المعتزلة يقابلون هذه الحجة إلا بقولهم حديث ابن عباس، هذا من الاَحاد فلا نترك به ظاهر الكتاب، وإنما هربوا عن القول في معنى الاَية بما يقتضيه ظاهر الحديث لمكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين‏}‏ فقالوا‏:‏ إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم يوم القيامة أن يقولوا شهدنا يومئذ فلما زال عنا علمنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا، كان منا من أصاب ومنا من أخطأ، وإن كان عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أن يقولوا أيدنا يوم الإقرار بالتوفيق والعصمة وحرمناهما من بعد، ولو مددنا بهما لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول‏.‏ فقد تبين أن الميثاق ما ركز الله فيهم من العقول وآتاهم وآباءهم من البصائر لأنها هي الحجة الباقية المانعة لهم أن يقولوا إنا كنا عن هذا غافلين، لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسل حجة عليهم في الإيمان بما أخبروا به من الغيوب‏.‏

قال الطيبي‏:‏ وخلاصة ما قالوه أنه يلزم أن يكونوا محتجين يوم القيامة بأنه زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا فيقال لهم كذبتم بل أرسلنا رسلنا تترى يوقظونكم من سنة الغفلة، وأما قوله حرمنا عن التوفيق والعصمة من بعد ذلك فجوابه‏:‏ أن هذا مشترك الإلزام إذ لهم أن يقولوا لا منفعة لنا في العقول والبصائر حيث حرمنا عن التوفيق والعصمة‏.‏ والحق أن تحمل الأحاديث الواردة على ظواهرها ولا يقدم على الطعن فيها بأنها آحاد لمخالفتها لمعتقد أحد، ومن أقدم على ذلك فقد حرم خيراً كثيراً وخالف طريقة السلف الصالحين لأنهم كانوا يثبتون خبر واحد عن واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلونه سنة، حمد من تبعها وعيب من خالفها انتهى‏.‏ ‏(‏وبعمل أهل الجنة‏)‏ أي من الطاعات ‏(‏يعملون‏)‏ إما في جميع عمرهم أو في خاتمة أمرهم ‏(‏ففيم العمل يا رسول الله‏)‏ أي إذا كان كما ذكرت يا رسول الله من سبق القدر، ففي أي شيء يفيد العمل‏؟‏ أو بأي شيء يتعلق العمل أو فلأي شيء أمرنا بالعمل ‏(‏استعمله بعمل أهل الجنة‏)‏ أي جعله عاملاً بعمل أهل الجنة ووفقه للعمل به، ‏(‏حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة‏)‏ فيه إشارة إلى أن المدار على عمل مقارن بالموت‏.‏

وله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن‏)‏ وأخرجه مالك في الموطإ وأحمد والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير وابن حبان في صحيحه وغيرهم ‏(‏ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر الخ‏)‏‏.‏

قال الحافظ ابن كثير‏:‏ وكذا قاله أبو حاتم وأبو زرعة زاد أبو حاتم وبينهما نعيم بن ربيعة‏.‏ وهذا الذي قاله أبو حاتم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفي، عن بقية عن عمر بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة، قال‏:‏ كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الاَية ‏{‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم‏}‏ فذكر وقال الحافظ الدارقطني‏:‏ وقد تابع عمر بن جعثم يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي وقولهما أولى بالصواب من قول مالك‏.‏

قال ابن كثير‏:‏ الظاهر أن الإمام مالكاً إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمداً لما جهل حال نعيم ولم يعرفه فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم ولهذا يرسل كثيراً من المرفوعات ويقطع كثيراً من الموصولات انتهى‏.‏ وقال المنذري‏:‏ قال أبو عمر النمري‏:‏ هذا حديث منقطع بهذا الإسناد لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب وبينهما في هذا الحديث نعيم ابن ربيعة، وهذا أيضاً مع الإسناد لا تقوم به حجة، ومسلم بن يسار هذا مجهول، قيل إنه مدني وليس بمسلم بن يسار البصري، وقال أيضاً‏:‏ وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعاً غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة يطول ذكرها من حديث عمر بن الخطاب وغيره انتهى‏.‏

قلت‏:‏ مسلم بن يسار هذا وثقة ابن حبان، وقال العجلى تابعي ثقة، ونعيم بن ربيعة وثقه أيضاً ابن حبان، وقال الحافظ هو مقبول

- قوله‏:‏ ‏(‏فسقط من ظهره‏)‏ أي خرج منه ‏(‏كل نسمة‏)‏ أي ذي روح وقيل كل ذي نفس مأخوذة من النسيم قاله الطيبي ‏(‏هو خالقها من ذريته‏)‏ الجملة صفة نسمة ومن بيانية، وفي الحديث دليل بين على أن إخراج الذرية كان حقيقياً ‏(‏وبيصاً‏)‏ أي بريقاً ولمعاناً ‏(‏من نور‏)‏ في ذكره إشارة إلى الفطرة السليمة وفي قوله‏:‏ بين عيني كل إنسان إيذان بأن الذرية كانت على صورة الإنسان على مقدار الذر ‏(‏فأعجبه وبيص ما بين عينيه‏)‏ أي سره ‏(‏هذا رجل من آخر الأمم‏)‏ جمع أمة، والاَخرية إضافية لا حقيقية، فإن الاَخرية الحقيقية ثابتة لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن المعلوم أن داود عليه السلام ليس منهم ‏(‏يقال له داود‏)‏ قيل تخصيص التعجب من وبيص داود إظهار لكرامته ومدح له فلا يلزم تفضيله على سائر الأنبياء لأن المفضول قد يكون له مزية بل مزايا ليست في الفاضل، ولعل وجه الملاءمة بينهما اشتراك نسبة الخلافة ‏(‏قال‏)‏ أي آدم ‏(‏رب‏)‏ بحذف حرف النداء ‏(‏وكم جعلت عمره‏)‏ بضم العين والميم وقد تسكن، وكم مفعول لما بعده، وقدم لما له الصدر، أي كم سنة جعلت عمره ‏(‏زده من عمري‏)‏ يعني من جملة الألف، ومن عمري صفة أربعين قدمت فعادت حالاً ‏(‏أربعين سنة‏)‏ مفعول ثان لقوله زده، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رب زدني علماً‏}‏‏.‏

قال أبو البقاء‏:‏ زاد يستعمل لازماً كقولك، زاد الماء، ويستعمل متعدياً إلى مفعولين، كقوله زدته درهماً، وعلى هذا جاء قوله تعالى ‏{‏فزادهم الله مرضاً‏}‏ ‏(‏أو لم يبق من عمري أربعون سنة‏)‏ بهمزة الاستفهام الإنكاري المنصب على نفي البقاء فيفيد إثباته وقدمت على الواو لصدارتها، والواو استئنافية لمجرد الربط بين ما قبلها وما بعدها ‏(‏قال‏)‏ أي ملك الموت ‏(‏أو لم تعطها‏)‏ أي أتقول ذلك ولم تعط الأربعين ‏(‏فجحد آدم‏)‏ أي ذلك لأن كان في عالم الذر فلم يستحضره حالة مجيء ملك الموت له ‏(‏فجحدت ذريته‏)‏ لأن الولد سر أبيه ‏(‏فنسى آدم فنسيت ذريته‏)‏ كذا في النسخ الموجودة‏.‏ ووقع في المشكاة ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته‏.‏

قال القاري‏:‏ قيل نسي أن النهي عن جنس الشجرة أو الشجرة بعينها، فأكل من غير المعينة، وكان النهي عن الجنس ‏(‏وخطئ‏)‏ بكسر الطاء من باب سمع يسمع أي أذنب وعصى‏.‏

تنبيه‏:‏

قد أخرج الترمذي حديث أبي هريرة هذا في آخر كتاب التفسير وفيه قال‏.‏ يا رب من هذا‏.‏ قال هذا ابنك داود وقد كتبت له عمر أربعين سنة قال يا رب زده في عمره‏.‏ قال ذاك الذي كتب له‏.‏ قال أي ربي فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة‏.‏ قال أنت وذاك، ثم أسكن الجنة ما شاء الله‏.‏ ثم اهبط منها وكان آدم يعد لنفسه‏.‏ قال فأتاه ملك الموت فقال له آدم‏:‏ قد عجلت قد كتب لي ألف سنة‏.‏ قال بلى، ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة، فهذه الرواية التي في آخر كتاب التفسير مخالفة لهذه الرواية التي في سورة الأعراف مخالفة ظاهرة‏.‏

قال القاري‏:‏ ويمكن الجمع بأنه جعل له من عمره أولاً أربعين ثم زاد عشرين فصار ستين، ونظيره قوله تعالى ‏{‏وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا واعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة‏}‏‏.‏ ولا يبعد أن يتكرر مأتى عزرائيل عليه السلام للامتحان بأن جاء وبقي من عمره ستون، فلما جحده رجع إليه بعد بقاء أربعين على رجا أنه تذكر بعد ما تفكر فجحد ثانياً، وهذا أبلغ من باب النسيان والله المستعان‏.‏ والأظهر أنه وقع شك للراوي وتردد في كون العدد أربعين أو ستين فعبر عنه تارة بالأربعين وأخرى بالستين، ومثل هذا وقع من المحدثين، وأجاب عنه بما ذكرنا بعد المحققين، ومهما أمكن الجمع فلا يجوز القول بالوهم والغلط في رواية الحفاظ المتقنين‏.‏

وأما ما قيل من أن ساعات أيام عمر آدم كانت أطول من زمان داود فموقوف على صحة النقل وإلا فبظاهره يأباه العقل كما حقق في دوران الفلك عند أهل الفضل انتهى كلام القاري بلفظه‏.‏ ثم قال والحديث السابق يعني الذي في تفسير سورة الأعراف أرجح، وكذا أوفق لسائر الأحاديث الواردة كما في الدر المنثور والجامع الكبير للسيوطي رحمه الله تعالى‏.‏

قلت‏:‏ كل ما ذكره القارى من وجوه الجمع مخدوش إلا الوجه الأخير، وهو أن الحديث الذي في تفسير سوره الأعراف رجح من الحديث الذي في آخر كتاب التفسير فهو المعتمد‏.‏ ووجه كون الأول أرجح من الثاني ظاهر من كلام الترمذي فإنه قال بعد رواية الأول‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وقال بعد رواية الثاني‏:‏ هذا حديث حسن غريب وأيضاً في سند الثاني سعيد بن أبي سعيد المقبري وكان قد تغير قبل موته بأربع سنين، هذا ما عندي والله تعالى أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏عن عمر بن إبراهيم‏)‏ العبدي البصري صاحب الهروي، صدوق في حديثه عن قتادة، ضعف من السادسة، كذا في التقريب‏.‏ وقال في تهذيب‏.‏

التهذيب‏:‏ قال أحمد وهو يروي عن قتادة أحاديث مناكير يخالف وقال ابن عدي‏:‏ يروي عن قتادة أشياء لا يوافق عليها وحديثه خاصة عن قتادة مضطرب انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏طاف بها إبليس‏)‏ أي جاءها ‏(‏وكان لا يعيش لها ولد‏)‏ من العيش وهو الحياة، أي لا يحيى لها ولد ولا يبقى، بل كان يموت ‏(‏فقال‏)‏ أي إبليس ‏(‏سميه عبد الحارث‏)‏ قال كثير من المفسرين‏:‏ إنه جاء إبليس إلى حواء وقال لها‏:‏ إن ولدت ولداً فسميه باسمي، فقالت ما اسمك‏؟‏ قال الحارث، ولو سمى لها نفسه لعرفته، فسمته عبد الحارث، فكان هذا شركاً في التسمية ولم يكن شركاً في العبادة‏.‏ وقد روى هذا بطريق وألفاظ عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، كذا في تفسير فتح البيان والدين الخالص ‏(‏وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره‏)‏ أي من وسوسته وحديثه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن غريب‏)‏ وأخرجه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وابن أبي حاتم وغيرهم‏.‏

قال الحافظ ابن كثير‏:‏ هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه، أحدها‏:‏ أن عمر ابن إبراهيم هذا هو البصري، وقد وثقه ابن معين، ولكن قال أبو حاتم الرازي‏:‏ لا يحتج به، ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعاً فالله أعلم‏.‏ الثاني‏:‏ أنه قد روي من قول سمرة نفسه ليس مرفوعاً‏.‏ الثالث‏:‏ أن الحسن نفسه فسر الاَية بغير هذا‏:‏ فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعاً لما عدل عنه‏.‏ انتهى‏.‏

قلت‏:‏ عمر بن إبراهيم المذكور وثقه غير واحد من أئمه الحديث، لكنه ضعيف في رواية الحديث عن قتادة كما عرفت، وهذا الحديث رواه عن قتادة، وفي سماع الحسن من سمرة كلام معروف‏.‏

تنبيه‏:‏

أورد الترمذي حديث سمرة المذكور هنا في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين‏.‏ فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون‏}‏ قال صاحب فتح البيان‏:‏ قد استشكل هذه الاَية جمع من أهل العلم، لأن ظاهرها صريح في وقوع الإشراك من آدم عليه السلام، والأنبياء معصومون عن الشرك، ثم اضطروا إلى التفصي من هذا الإشكال‏.‏ فذهب كل إلى مذهب، واختلفت أقوالهم في تأويلها اختلافاً كثيراً حتى أنكر هذه القصة جماعة من المفسرين منهم الرازي وأبو السعود وغيرهما‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هذا في الكفار يدعون الله، فإذا آتاهما صالحاً هودوا أو نصروا‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ هم الكفار سموا أولادهم بعبد العزى وعبد الشمس وعبد الدار ونحو ذلك‏.‏

قال الحسن‏:‏ كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم، وقيل هذا خطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آل قصي، وحسنه الزمخشري وقال‏:‏ هذا تفسير حسن لا إشكال فيه‏.‏ وقيل معناها على حذف المضاف، أي جعل أولادهما شركاء، ويدل له ضمير الجمع في قوله الاَتي عما يشركون وإياه ذكر النسفي والقفال وارتضاه الرازي وقال‏:‏ هذا جواب في غاية الصحة والسداد وبه قال جماعة من المفسرين‏.‏ وقيل معنى من نفس واحدة‏:‏ من هيئة واحدة وشكل واحد، فجعل منها أي من جنسها زوجها، فلما تغشاها يعني جنس الذكر جنس الأنثى، وعلى هذا لا يكون لاَدم ولا حواء ذكر في الاَية، وتكون ضمائر التثنية راجعة إلى الجنسين‏.‏ وهذه الأقوال كلها متقاربة في المعنى متخالفة في المبنى، ولا يخلو كل واحد منها من بعد وضعف وتكلف بوجوه‏:‏ الأول أن الحديث المرفوع المتقدم، يعني حديث سمرة المذكور يدفعه وليس في واحد في تلك الأقوال قول مرفوع حتى يعتمد عليه ويصار إليه، بل هي تفاسير بالاَراء المنهى عنها المتوعد عليها‏.‏ الثاني أن فيه انخرام لنظم القرآن سياقاً وسياقاً، الثالث‏:‏ أن الحديث صرح بأن صاحبة القصة هي حواء، وقوله جعل منها زوجها إنما هو لحواء دون غيرها، فالقصة ثابتة لا وجه لإنكارها بالرأي المحض‏.‏

والحاصل‏:‏ أن ما وقع إنما وقع من حواء لا من آدم عليه السلام، ولم يشرك آدم قط، وقوله جعلا له شركاء‏:‏ بصيغة التثنية لا ينافي ذلك لأنه قد يسند فعل الواحد إلى الاثنين بل إلى جماعة، وهو شائع في كلام العرب‏.‏ وعلى هذا فليس في الاَية إشكال، والذهاب إلى ما ذكرناه متعين تبعاً للكتاب والحديث، وصوناً لجانب النبوة عن الشرك بالله تعالى، والذي ذكروه في تأويل هذه الاَية الكريمة يرده كله ظاهر الكتاب والسنة‏.‏ انتهى مختصراً‏.‏

قلت‏:‏ لو كان حديث سمرة المذكور صحيحاً ثابتاً صالحاً للاحتجاج لكان كلام صاحب فتح البيان هذا حسناً جيداً ولكنك قد عرفت أنه حديث معلول لا يصلح للاحتجاج، فلا بد لدفع الإشكال المذكور أن يختار من هذه الأقوال التي ذكروها في تأويل الاَية ما هو الأصح والأقوى، وأصحها عندي هو ما اختاره الرازي وابن جرير وابن كثير‏.‏

قال الرازي في تفسيره المروي عن ابن عباس‏:‏ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وهي نفس آدم، وجعل منها زوجها أي حواء خلقها الله من ضلع آدم عليه السلام من غير أذى، فلما تغشاها‏:‏ آدم، حملت حملاً خفيفاً فلما أثقلت أي ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل، قال‏:‏ ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلباً أو بهيمة، وما يدريك من أين يخرج، أمن دبرك فيقتلك، أو ينشق بطنك، فخافت حواء وذكرت ذلك لاَدم عليه السلام، فلم يزالا في هم من ذلك، ثم أتاها، وقال‏:‏ إن سألت الله أن يجعله صالحاً سوياً مثلك، ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحارث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فذلك قوله‏:‏ فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما‏:‏ أي لما آتاهما الله ولداً سوياً صالحاً، جعلا له شريكاً‏:‏ أي جعل آدم وحواء له شريكاً، والمراد به الحارث، هذا تمام القصة‏.‏

واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أنه تعالى قال‏:‏ فتعالى الله عما يشركون‏.‏ وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه تعالى قال بعده‏:‏ أيشركون من لا يخلق شيئاً وهم يخلقون، وهذا يدل أن المقصود من هذه الاَية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الاَية ذكر‏.‏

الثالث‏:‏ لو كان المراد إبليس لقال‏:‏ أيشركون من لا يخلق شيئاً، ولم يقل ما لا يخلق شيئاً، لأن العاقل إنما يذكر بصيغة من لا بصيغة ما‏.‏

الرابع‏:‏ أن آدم عليه السلام كان من أشد الناس معرفة بإبليس، وكان عالماً بجميع الأسماء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وعلم آدم الأسماء كلها‏}‏ فكان لا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحارث، فمع العداوة الشديدة التي بينه وبين آدم، ومع علمه بأن اسمه هو الحارث‏؟‏ كيف سمى ولد نفسه بعبد الحارث‏؟‏ وكيف ضاقت عليه الأسماء حتى إنه لم يجد سوى هذا الاسم‏.‏

الخامس‏:‏ أن الواحد لو حصل له ولد يرجو منه الخير والصلاح، فجاءه إنسان ودعاه أن يسميه بمثل هذه الأسماء لزجره، وأنكر عليه أشد الإنكار، فآدم عليه السلام مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله ‏{‏وعلم آدم الأسماء كلها‏}‏ وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة التي وقع فيها لأجل وسوسة إبليس، كيف لم يتنبه لهذا القدر، وكيف لم يعرف أن ذلك من الأفعال المنكرة التي يجب على العاقل الاحتراز منها‏.‏

السادس‏:‏ أن بتقدير أن آدم عليه السلام سماه بعبد الحارث، فلا يخلو إما أن يقال‏:‏ إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له، أو جعله صفة له، بمعنى أنه أخبر بهذا اللفظ أنه عبد الحارث ومخلوق من قبله، فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً بالله، لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة، فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الإشراك، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم عليه السلام اعتقد أن لله شريكاً في الخلق والإيجاد والتكوين، وذلك يوجب الجزم بتكفير آدم وذلك لا يقوله عاقل‏.‏ فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد‏.‏ ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه‏.‏

إذا عرفت هذا فتقول في تأويل الاَية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد، التأويل الأول ما ذكره القفال فقال‏:‏ إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل، وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى بقول‏:‏ هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية، فلما تغشى الزوج الزوجة وظهر الحمل دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لاَلائك ونعماتك فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً جعل الزوج والزوجة شركاء فيما آتاهما لأنهم تارة ينسبون ذلك للطبائع كما هو قول الطبائعيين وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فتعالى الله عما يشركون‏}‏، أي تنزه الله عن ذلك الشرك، وهذا جواب في غاية الصحة والسداد‏.‏

ثم ذكر باقي التأويلات من شاء الوقوف عليها فليراجع تفسيره‏.‏ وقال الحافظ‏:‏ ابن كيثر في تفسيره‏:‏ قال ابن جرير، حدثنا ابن وكيع، حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو عن الحسن‏:‏ جعلا له شركاء فيما آتاهما قال‏:‏ كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم‏.‏

وحدثنا محمد بن عبد الأعلى‏.‏ حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال‏:‏ قال الحسن عنى بها ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده يعني جعلا له شركاء فيما آتاهما، وحدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة‏:‏ كان الحسن يقول‏:‏ هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا، وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله تعالى عنه أنه فسر الاَية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الاَية، ولو كان هذا الحديث يعني حديث سمرة المذكور عنده محفوظاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره لا سيما مع تقواه لله وورعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم مثل‏:‏ كعب ووهب بن منبه وغيرهما، إلا إنما برئنا من عهدة المرفوع، انتهى‏.‏

أما أثر ابن عباس الذي ذكره الرازي فهو مروي من طرق متعددة بألفاظ مختلفة، وهو يحتمل أن يكون مأخوذاً من الإسرائيليات، قال الحافظ ابن كثير بعد ذكره من الطرق المتعددة بالألفاظ المختلفة ما لفظه‏:‏ وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة‏.‏ ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف، ومن المفسربين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة، وكأنه أصله مأخوذ من أهل الكتاب، فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب كما رواه ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر، حدثنا سعيد يعني ابن بشير، عن عقبة، عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال‏:‏ لما حملت حواء أتاها الشيطان فقال لها‏:‏ أتطيعيني ويسلم لك ولدك، سميه عبد الحارث، فلم تفعل فولدت فمات، ثم حملت فقال لها مثل ذلك، فلم تفعل، ثم حملت الثالثة فجاءها فقال إن تطيعيني يسلم وإلا فإنه يكون بهيمة فهيبهما فأطاعا‏.‏

وهذه الآثار يظهر عليها أنها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم‏"‏ ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام‏:‏ فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضاً، ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في روايته بقوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج‏"‏، وهو الذي لا يصدق ولا يكذب لقوله ‏"‏فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم‏"‏‏.‏ وهذا الأثر هو من القسم الثاني أن الثالث فيه نظر، فأما من حدث به من صحابي أو تابعي فإنه يراه من القسم الثالث‏.‏ وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته، ولهذا قال الله‏:‏ ‏(‏فتعالى الله عما يشركون‏)‏ ثم قال‏.‏ فذكره آدم وحواء أولاً كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس‏.‏ انتهى كلام الحافظ ابن كثير‏.‏

1814- باب وَمَنْ سُورَةِ الأنْفَال

هي مدنية خمس أو ست أو سبع وسبعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم 3178- حدثنا أبو كُرَيْبٍ، أخبرنا أبُو بَكْرٍ بنِ عَيّاشٍ عن عاصِمِ بنِ بَهْدَلَةَ عن مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ عن أبِيهِ قال‏:‏ ‏"‏لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جِئْتُ بِسَيْفٍ فَقلت‏:‏ يَا رَسُولَ الله، إنّ الله قَد شَفَى صَدْرِي مِنَ المُشْرِكِينَ أوْ نَحْوَ هَذا هَبْ لِي هَذا السّيْفَ، فقالَ‏:‏ ‏"‏هَذَا لَيْسَ لِي وَلاَ لَكَ‏"‏، فَقلت‏:‏ عَسَى أنْ يُعْطَى هَذَا مَنْ لاَ يُبْلِي بَلاَئِي، فجاءَ الرّسُولُ فَقَالَ ‏"‏إنّكَ سَأَلْتَنِي وَلَيْسَ لِي وَإِنّهُ قَدْ صَارَ لِي وَهُوَ لَكَ‏"‏، قالَ‏:‏ فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأنْفَالِ‏}‏‏.‏ الاَية‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏ وقد رَوَاهُ سِماك بن حرب عن مُصعَبِ بنِ سَعدٍ أيضاً‏.‏ وفي البابِ عن عُبَادَةَ بن الصّامِتِ‏.‏

3179- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ عن إسْرَائِيلَ عن سِمَاكٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ قال‏:‏ ‏"‏لَمّا فَرَغَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ بَدْرٍ قيلَ لَهُ‏:‏ عَلَيْكَ الْعِيرُ لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ‏.‏ قال‏:‏ فَنَادَاهُ الْعَبّاسُ- وَهُوَ في وَثَاقِهِ- لا يَصْلُحُ وقال‏:‏ لأَنّ الله تَعَالَى وَعَدَكَ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ وَقَدْ أعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏صَدَقْتَ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

3180- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا عُمَرُ بنُ يُونسَ الْيَمَامِيّ، أخبرنا عِكْرِمَةُ بنُ عَمّارٍ أخبرنا أبو زُمَيْلٍ، حدثني عَبْدُ الله بنُ عَبّاسٍ، حدثني عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ قال‏:‏ ‏"‏نَظَرَ نَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم إلَى المشْرِكِينَ وَهُمْ ألْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمَائَةٍ وَبِضْعَةُ عَشَرَ رَجُلاً، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ ثمّ مَدّ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ‏:‏ ‏"‏اللّهُمّ انْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَني، اللّهُمّ أتني ما وعدتني اللّهُمّ إِنّكَ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أهْلِ الإسْلاَمِ لا تُعْبَدُ في الأرْضِ‏"‏، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ مادّاً يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ مِنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثمّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وقال‏:‏ يَا نَبِيّ الله، كَفَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبّكَ فَإِنّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ‏{‏إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ‏}‏ فأَمَدّهُمُ الله بِالمَلاَئِكَةِ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، لا نَعْرِفُهُ من حديثِ عُمَرَ إلاّ من حديثِ عِكْرِمَةَ بنِ عَمّارٍ عن أبي زُمَيْلٍ‏.‏ وأبو زُمَيْلٍ اسْمُهُ سِمَاكُ الْحَنَفِيّ، وَإِنّمَا كَانَ هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ‏.‏

3181- حدثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيعٍ، أخبرنا ابنُ نُمَيْرٍ عن إسماعِيلَ بنِ إبْرَاهِيمَ بنِ مُهَاجِرٍ، عن عَبّادِ بنِ يُوسُفَ عن أبي بُرْدَةَ بنِ أبي مُوسَى عن أبِيهِ قال‏:‏ قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أَنْزَلَ الله عَلَيّ أَمَانَيْنِ لأُمّتِي‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ فإذا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمْ الاسْتِغْفَارَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ غريبٌ‏.‏

وإسماعِيلُ بنُ إبراهِيمَ بنِ مُهَاجِرٍ يُضَعّفُ في الحديثِ‏.‏

3182- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنَِعٍ، أخبرنا وَكِيعٌ عن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ عن صَالحِ بنِ كَيْسَانَ عن رَجُلٍ لَمْ يُسَمّهِ عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ، ‏"‏أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هَذِهِ الاَيَةَ عَلَى المِنْبَرِ‏:‏ ‏{‏وَأَعِدّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏أَلاَ إنّ القُوّةَ الرّمْيُ- ثَلاَثَ مَرّاتٍ- أَلاَ إنّ الله سَيَفْتَحُ لَكُمْ الأرْضَ وَسَتُكْفَوْنَ المَؤنَةَ، فَلاَ يَعْجِزَنّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وقد رَوَى بعضُهم هذا الحديثَ عن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ عن صالحِ بنِ كَيْسَانَ رواه أبو أسامة وغير واحد عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ‏.‏ وحديثُ وَكِيعٍ أَصَحّ‏.‏ وصالحُ بنُ كَيْسَانَ لم يُدْرِكْ عُقْبَةَ بنَ عامرٍ، وقد أَدْرَكَ ابنَ عُمَرَ‏.‏

3183- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرني مُعاوِيَةُ بنُ عَمْرٍو، عن زَائِدَة عن الأعمَشِ عن أبي صالحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لَمْ تَحِلّ الْغَنَائِمُ لأحَدِ سُودِ الرّؤوسِ مِنْ قَبْلِكُمْ كانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السّمَاءِ فَتَأَكُلُهَا‏"‏‏.‏ قال سُلَيْمانُ الأعمَشُ‏:‏ فَمَنْ يقولُ هَذَا إلاّ أَبُو هُرَيْرَةَ الاَنَ‏.‏ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَقَعُوا في الْغَنَائِمِ قَبْلَ أَنْ تَحِلّ لَهُمْ، فَأَنْزَلَ الله تعالى ‏{‏لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب من حديث الأعمش‏.‏

3184- حدثنا هَنّادٌ، أخبرنا أبو مُعَاوِيَةَ، عن الأعمَشِ، عن عَمْرِو بنِ مُرّةَ، عن أبي عُبَيْدَةَ بنِ عَبْدِ الله، عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قال‏:‏ لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَجِيءَ بِالأُسَارَى قال لِرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَا تَقُولُونَ في هَؤُلاَءِ الاْسَارَى‏"‏، فَذَكَرَ في الْحَدِيثِ قِصّةً، فقال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يَنْفَلِتَنّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلاّ بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ‏"‏، فقال عبدُ الله بنُ مَسْعُودٍ فَقلت‏:‏ يَا رَسُولَ الله، إلاّ سُهَيْلَ بنَ بَيْضَاءَ فَإِنّي قد سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الاْسْلاَمَ‏.‏ قالَ‏:‏ فَسَكَتَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ فَمَا رَأَيْتُنِي في يَوْمِ أَخْوفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيّ حِجَارَةٌ مِنَ السّمَاءِ مِنّي في ذَلِكَ الْيَوْمِ، قال حَتّى قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إِلاّ سُهَيْلَ بنَ بَيْضَاءِ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِ عُمَرَ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتّى يُثْخِنَ في الأرْضِ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلى آخِرِ الاَياتِ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ‏.‏ وأبو عُبَيْدَةَ بنُ عبدِ الله لم يَسْمَعْ مِنْ أبِيهِ‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏إن الله شفى صدري من المشركين أو نحو هذا‏)‏ أو للشك من الراوي، يعني قال هذا اللفظ، أو قال لفظاً آخر نحو ‏(‏هب لي‏)‏ أي أعطني ‏(‏هذا ليس لي ولا لك‏)‏ لأنه من أموال الغنيمة التي لم تقسم ‏(‏عسى أن يعطى‏)‏ بصيغة المجهول ‏(‏هذا‏)‏ أي السيف وهو نائب الفاعل ليعطي ‏(‏من لا يبلي بلائي‏)‏ مفعول ثان ليعطي‏.‏

قال في النهاية‏:‏ أي لا يعمل مثل عملي في الحرب، كأنه يريد أفعل فعلاً أختبر فيه ويظهر به خيري وشري انتهى‏.‏ وفي رواية أبي داود‏:‏ من لم يبل بلائي‏.‏ قال السندي‏:‏ أي لم يعمل مثل عملي في الحرب، كأنه أراد أن في الحرب يختبر الرجل فيظهر حاله، وقد اختبرت أنا فظهر مني ما ظهر فأنا أحق بهذا السيف من الذي لم يختبر مثل اختباري انتهى، ‏(‏فجاءني الرسول‏)‏ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏وليس لي‏)‏ جملة حالية، أي سألتني السيف، والحال أنه لم يكن لي ‏(‏وإنه قد صار إليّ‏)‏ أي الاَن ‏(‏فنزلت يسألونك عن الأنفال‏)‏‏.‏

قال البخاري في صحيحه‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ الأنفال المغانم‏.‏ وروي عن سعيد ابن جبير، قلت لابن عباس سورة الأنفال قال‏:‏ نزلت في بدر ‏(‏الاَية‏)‏ قال في الجلالين في تفسير هذه الاَية‏:‏ لما اختلف المسلمون في غنائم بدر، فقال الشبان‏:‏ هي لنا لأنا باشرنا القتال، وقال الشيوخ‏:‏ كنا ردءاً لكم تحت الرايات، ولو انكشفتم لفئتم إلينا فلا تستأثروا بها‏.‏ نزل يسألونك‏:‏ يا محمد، عن الأنفال‏:‏ الغنائم لمن هي، قل لهم‏:‏ الأنفال لله والرسول‏:‏ يجعلانها حيث شاءا‏.‏ فقسمها صلى الله عليه وسلم بينهم بالسواء‏.‏ رواه الحاكم في المستدرك، ‏{‏فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم‏}‏‏:‏ أي حقيقة ما بينكم بالمودة وترك النزاع، ‏{‏وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين‏}‏‏:‏ حقاً‏.‏ وقال في المدارك‏:‏ وأصلحوا ذات بينكم‏:‏ أي أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى ذات بينكم‏:‏ حقيقة وصلكم، والبين‏:‏ الوصل، أي فاتقوا الله وكونوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله به‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكر في الجلالين من سبب نزول هذه الاَية، فهو مروي عن ابن عباس عند أبي داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه وابن حبان والحاكم ونحوه عن عبادة بن الصامت كما أشار إليه الترمذي، وسيجيء لفظه، قال الخازن‏:‏ قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأنفال‏}‏‏.‏ استفتاء، يعني يسألك أصحابك يا محمد عن حكم الأنفال وعلمها، وهو سؤال استفتاء لا سؤال طلب‏.‏ قال الضحاك وعكرمة‏:‏ هو سؤال طلب، وقوله عن الأنفال‏:‏ أي من الأنفال‏.‏ وعن بمعنى من أو قيل عن صلة‏:‏ أي يسألونك الأنفال انتهى‏.‏

قلت‏:‏ حديث سعد بن أبي وقاص يقتضي أنه سؤال طلب، وحديث ابن عباس، وحديث عبادة يقتضيان أنه سؤال استفتاء وهو الراجح عندي‏.‏ وقال صاحب فيح البيان‏:‏ ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء حتى نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه‏}‏ فهي على هذا منسوخة، وبه قال مجاهد وعكرمة والسدي‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ محكمة مجملة، وقد بين الله مصارفها في آية الخمس، وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس انتهى‏.‏

قلت‏:‏ والظاهر الراجح عندي أنها ليست بمنسوخة، بل هي محكمة والله تعالى أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب‏)‏ أي في شأن نزول هذه الاَية ‏(‏عن عبادة بن الصامت‏)‏ أخرجه أحمد عنه قال‏:‏ خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في إثرهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على الغنائم يحوونه ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلملا يصيب العدو منهم غرة‏.‏ حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم‏:‏ نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم بأحق بها منا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم‏.‏ وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم لستم بأحق منا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت ‏"‏يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم‏"‏ فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فواق بين المسلمين، وفي لفظ مختصر فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه فينا على بواء، يقول على السواء‏.‏

قال الشوكاني في النيل‏:‏ حديث عبادة قال في مجمع الزوائد رجال أحمد ثقات، وأخرجه أيضاً الطبراني، وأخرج نحوه الحاكم عنه‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا أبو زميل‏)‏ بضم الزاي مصغراً اسمه سِمَاك بن الوليد الحنفي ‏(‏حدثني عبد الله بن عباس‏)‏ بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يسمى البحر والحبر لسعة علمه، وقال عمر‏:‏ لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عثره منا أحد، مات سنة ثمان وستين بالطائف، وهو أحد المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة من فقهاء الصحابة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نطر نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين‏)‏ وفي رواية مسلم لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين‏.‏

قال النووي‏:‏ بدر هو موضع الغزوة العظمى المشهورة وهو ماء معروف وقرية عامرة على أربع مراحل من المدينة بينها وبين مكة‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ بدر بئر كانت لرجل يسمى بدراً فسميت باسمه‏.‏

قال أبو اليقظان‏:‏ كان لرجل من بني غفار، وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة ‏(‏ثم مد يديه‏)‏ أي رفعهما ‏(‏وجعل يهتف‏)‏ بفتح أوله وكسر التاء المثناة بعد الهاء، ومعناه يصيح ويستغيث بالله بالدعاء، وفيه استحباب استقبال القبلة في الدعاء ورفع اليدين فيه، وأنه لا بأس برفع الصوت في الدعاء ‏(‏اللهم أنجز لي ما وعدتني‏)‏ من الإنجاز‏:‏ أي أحضر لي ما وعدتني، يقال‏:‏ انجز وعده إذا أحضره ‏(‏اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة‏)‏‏.‏

قال النووي‏:‏ ضبطوا تهلك بفتح التاء وضمها، فعلى الأول ترفع العصابة على أنها فاعل، وعلى الثاني تنصب وتكون مفعوله، والعصابة‏:‏ الجماعة انتهى‏.‏

قال الحافظ في الفتح‏:‏ إنما قال ذلك لأنه علم أنه خاتم النبيين، فلو هلك هو ومن معه حينئذ لم يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان ولا ستمر المشركون يعبدون غير الله، فالمعنى لا يعبد في الأرض بهذه الشريعة ‏(‏كفاك‏)‏‏.‏ وفي بعض النسخ كذاك بالذال، وفي رواية البخاري حسبك وكله بمعنى، كما صرح به الجزري والنووي ‏(‏مناشدتك ربك‏)‏ المناشدة‏:‏ السؤال مأخوذة من النشيد، وهو رفع الصوت وضبطوا مناشدتك بالرفع والنصب وهو الأشهر‏.‏ قال القاضي‏:‏ من رفعه جعله فاعلاً لكفاك، ومن نصبه فعلى المفعول لما في حسبك وكفاك، وكذاك من معنى الفعل من الكف‏.‏

قال العلماء‏:‏ هذه المناشدة إنما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ليراه أصحابه بتلك الحال فتقوى قلوبهم بدعائه وتضرعه مع أن الدعاء عبادة‏.‏ وقد كان وعده الله تعالى إحدى الطائفتين، إما العير وإما الجيش، وكانت العير قد ذهبت وفاتت، فكان على ثقة من حصول الأخرى ولكن سأل تعجيل ذلك وتنجيزه من غير أذى يلحق المسلمين ‏(‏فإنه سينجز لك ما وعدك‏)‏‏.‏

قال الخطابي‏:‏ لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال‏.‏ بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، لأنه كان أول مشهد شهده فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال أبو بكر ما قال، كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقب بقوله سيهزم الجمع ‏(‏إذ تستغيثون ربكم‏)‏ أي تطالبون منه الغوث بالنصر عليهم ‏(‏فاستجاب لكم‏)‏ أي فأجاب دعاءكم ‏(‏أَني ممدكم‏)‏ أي بأني معينكم ‏(‏بألف من الملائكة مردفين‏)‏ أي متتابعين يردف بعضهم بعضاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح غريب‏)‏ وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وأخرجه البخاري مختصراً‏.‏

قال الحافظ‏:‏ هذا من مراسيل الصحابة، فإن ابن عباس لم يحضر ذلك ولعله أخذه عن عمر أو عن أبي بكر ‏(‏وقال وإنما كان هذا يوم بدر‏)‏ الظاهر أن ضمير قال راجع إلى الترمذي‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏عليك العير‏)‏ أي عير أبي سفيان التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالمسلمين من المدينة يريدها، فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا إليها وسبقت العير المسلمين، فلما فاتهم العير نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بدراً فوقع القتال، وهذه العير يقال كانت ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، وكان فيها ثلاثون رجلاً من قريش، وقيل أربعون، وقيل ستون ‏(‏ليس دونها شيء‏)‏ أي ليس دون العير شيء يزاحمك ‏(‏فناداه العباس‏)‏ أي ابن عبد المطلب ‏(‏وهو في وثاقه‏)‏ وفي رواية أحمد وهو أسير في وثاقه، والوثاق بفتح الواو وكسرها ما يشد به من قيد وجل ونحوهما ‏(‏لا يصلح‏)‏ أي لا ينبغي لك ‏(‏لأن الله وعدك إحدى الطائفتين‏)‏ المراد بالطائفتين العير والنفير، فكان في العير أبو سفيان ومن معه كعمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل وما معه من الأموال‏.‏ وكان في النفير أبو جهل وعتبة بن ربيعة وغيرهما من رؤساء قريش ‏(‏قال‏)‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏صدقت‏)‏ أي فيما قلت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه أحمد‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا ابن نمير‏)‏ هو عبد الله بن نمير ‏(‏عن عباد بن يوسف‏)‏ قال في التقريب‏:‏ عباد بن يوسف ويقال بن سعيد كوفي عن أبي بردة مجهول من السادسة ويقال اسمه عبادة ‏(‏أنزل الله على أمانين‏)‏ أي في القرآن ‏{‏وما كان الله ليعذبهم إلخ‏}‏ قبله، وإذ قالوا ‏{‏اللهم إن كان هذا‏}‏ أي الذي يقرأه محمد، ‏{‏هو الحق من عندك‏}‏ أي المنزل من عندك ‏{‏فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ أي مؤلم على إنكاره قاله النضر وغيره، استهزاء وإيهاماً أنه على بصيرة وجزم ببطلانه ‏(‏وأنت فيهم‏)‏ أي مقيم بمكة بين أظهرهم حتى بخرجوك لأن العذاب إذا نزل عم ولم تعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنون منها‏.‏ ‏{‏وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏}‏ حيث يقولون في طوافهم‏:‏ غفرانك غفرانك، وقيل هم المؤمنون المستضعفون فيهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليم‏}‏ وبعده ‏{‏وما لهم أن لا يعذبهم الله‏}‏ أي بالسيف بعد خروجك والمستضعفين، وعلى القول الأول هي ناسخة لما قبلها، وقد عذبهم ببدر وغيرهم ‏{‏وهم يصدون‏}‏ أي يمنعون النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن المسجد الحرام أن يطوفوا به ‏{‏وما كانوا أولياءه‏}‏ ‏{‏كما زعموا‏}‏ إن أولياؤهم إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون أن لا ولاية لهم عليه ‏(‏فإذا مضيت‏)‏ أي ذهبت ‏(‏تركت فيهم‏)‏ أي بعدى ‏(‏الاستغفار إلى يوم القيامة‏)‏ فما داموا يستغفرون لم يعذبوا‏.‏

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا تزالون معصومين مجارين من طوارق العذاب ما دام بين أظهرهم فأمان قبضه الله إليه وأمان بقي فيكم قوله‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏}‏‏.‏

وروى أحمد عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عز وجل‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر يضعف في الحديث‏)‏ قال في التقريب‏:‏ إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي الكوفي ضعيف من السابعة‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏عن أسامة بن زيد‏)‏ هو الليثي‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وأعدوا لهم ما استطعتم إلخ‏}‏ ما موصولة والعائد محذوف ومن قوة بيان له، فالمراد هنا نفس القوة‏.‏ وفي هذا البيان والمبين إشارة إلى أن هذه العدة لا تستتب بدون المعالجة والإدمان الطويل، وليس شيء من عدة الحرب وأداتها أحوج إلى المعالجة والإدمان عليها مثل القوس والرمي بها، ولذلك كرر صلوات الله وسلامه عليه تفسير القوة بالرمي بقوله ‏(‏ألا‏)‏ للتنبيه ‏(‏إن القوة الرمي‏)‏ أي هو العمدة ‏(‏ثلاث مرات‏)‏ كررها ثلاثاً لزيادة التأكيد أو إشارة إلى الأحوال الثلاث من القلة والكثرة وبينهما فإنها نافية في جميعها ‏(‏وستكفون المؤنة‏)‏ بصيغة المجهول‏:‏ أي سيكفيكم الله مؤنة القتال بما فتح عليكم، وفي رواية مسلم يكفيكم الله‏.‏

قال القاري‏:‏ أي شرهم بقوته وقهره لكن ثوابكم وأجركم مترتب على سعيكم وتعبكم ‏(‏فلا يعجزن‏)‏ بكسر الجيم على المشهور وبفتحها على لغة، ومعناه الندب إلى الرمي‏.‏

قال النووي في شرح مسلم‏:‏ فيه وفي الأحاديث بعد فضيلة الرمي والمناضلة والاعتناء بذلك بنية الجهاد في سبيل الله تعالى، وكذلك المشاحفة وسائر أنواع استعمال السلاح‏.‏ وكذا المسابقة بالخيل وغيرها، والمراد بهذا كله التمرن على القتال والتدرب والتحذق فيه، ورياضة الأعضاء بذلك ‏(‏أن يلهو‏)‏ أي يشتغل يلعب ‏(‏بأسهمه‏)‏ جمع السهم أي مع قسيها بنية الجهاد وحديث عقبة هذا أخرجه أيضاً مسلم من وجه آخر‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏أخبرني معاوية بن عمرو‏)‏ بن المهلب‏.‏ ابن عمرو الأزدي المعني بفتح الميم وسكون المهملة وكسر النون، أبو عمرو البغدادي ويعرف بابن الكرماني ثقة من صغار التاسعة ‏(‏عن زائدة‏)‏ هو ابن قدامة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لأحد سود الرؤوس‏)‏ بإضافة أحد إلى سود، والمراد بسود الرؤوس بنو آدم لأن رؤوسهم سود ‏(‏قال سليمان الأعمش‏:‏ فمن يقول هذا إلا أبو هريرة الاَن‏)‏ لم يظهر لي أن الأعمش ما أراد بقوله فمن يقول هذا الخ، اللهم إلا أن يقال إن مراده به أنه لا يقول أحد الاَن في هذا الحديث لفظ سود الرؤوس إلا أبو هريرة، يعني لم يرد هذا اللفظ إلا في حديثه، ولكن يخدشه لفظ الاَن، فليتأمل ‏{‏لولا كتاب من الله سبق‏}‏ بإحلال الغنائم والأسرى لكم ‏{‏لمسكم‏}‏ أي لنا لكم وأصابكم ‏{‏فيما أخذتم‏}‏ من الفداء‏.‏ وروى الشيخان عن أبي هريرة‏:‏ غزا نبي من الأنبياء الحديث، وفي آخره‏:‏ ثم أحل الله لنا الغنائم، ثم رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ فيه اختصاص هذه الأمة بحل الغنيمة وكان ابتداء ذلك من غزوة بدر، وفيها نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً‏}‏ فأحل الله لهم الغنيمة‏.‏

وقد ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن عباس، وقد قدمت في أوائل فرض الخمس، أو أول غنيمة خمست غنيمة السرية التي خرج فيها عبد الله بن جحش، وذلك قبل بدر بشهرين، ويمكن الجمع بما ذكر ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم أخر غنيمة تلك السرية حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم بدر‏.‏ وفيه أن من مضى كانوا يغزون ويأخذون أموال أعدائهم وأسلابهم لكن لا يتصرفون فيها بل بجمعونها وعلامة قبول غزوهم ذلك أن تنزل النار من السماء فتأكلها، وعلامة عدم قبوله أن لا تنزل‏.‏ ومن اسباب عدم القبول أن يقع فيهم الغلول، وقد من الله على هذه الأمة ورحمها لشرف نبيها عنده فأحل لهم الغنيمة وستر عليهم الغلول، فطوى عنهم فضيحة أمر عدم القبول، فلله الحمد على نعمة تترى، ودخل في عموم أكل النار الغنيمة السبي وفيه بعد، لأن مقتضاه إهلاك الذرية ومن لم يقاتل من النساء، ويمكن أن يستثنوا من ذلك ويلزم استثناؤهم من تحريم الغنائم عليهم، ويؤيده أنهم كانت لهم عبيد وإماء فلو لم يجز لهم السبي لما كان لهم أرقاء، ويشكل على الحظر أنه كان السارق يسترق كما في قصة يوسف ولم أر من صرح بذلك انتهى‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏عن عمرو بن مرة‏)‏ هو ابن عبد الله بن طارق الجعلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فذكر في الحديث قصة‏)‏ قد ذكرنا هذه القصة بطولها في باب المشورة من أبواب الجهاد ‏(‏لا ينفلتن أحد‏)‏ أي لا يتخلصن ‏(‏منهم‏)‏ أي من الأساري ‏(‏ونزل القرآن بقول عمر‏)‏ أي نزل القرآن موافقاً لقول عمر ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى‏}‏ أي ما كان ينبغي لنبي، وقال أبو عبيدة‏:‏ معناه لم يكن لنبي ذلك فلا يكون لك يا محمد‏.‏ والمعنى ما كان لنبي أن يحبس كافراً قدر عليه وسار في يده أسيراً للفداء والمن‏.‏ والأسرى جمع أسير وأساري جمع الجمع ‏{‏حتى يثخن في الأرض‏}‏ الإثخان في كل شيء‏:‏ عبارة عن قوته وشدته، يقال أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه، والمعنى حتى يبالغ في قتال المشركين ويغلبهم ويقهرهم، فإذا حصل ذلك فله أن يقدم على الأسر فيأسر الأساري وبقبة الاَية مع تفسيرها هكذا تريدون عرض الدنيا‏.‏ يعني تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا بأخذكم الفداء من المشركين، وإنما سمى منافع الدنيا عرضاً لأنه لا ثبات لها ولا دوام، فكأنها تعرض ثم تزول بخلاف منافع الاَخرة فإنها دائمة لا انقطاع لها والله يريد لكم الاَخرة، أي ثوابها بقتل المشركين وقهرهم ونصركم الدين لأنها دائمة بلا زوال ولا انقطاع، والله عزيز‏:‏ لا يقهر ولا يغلب، حكيم‏:‏ في تدبير مصالح عباده‏.‏

واعلم أن حديث علي الذي قد مر في باب قتل الأسرى والفداء من أبواب السير، ظاهره يخالف حديث عبد الله بن مسعود هذا وظاهر هذه الاَية، وقد تقدم وجه الجمع هناك فعليك أن تراجعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن‏)‏ وأخرجه أحمد‏.‏